مؤيد الزعبي
في عصر تُصنع فيه القوة من الأصفار والآحاد "0-1"، وفي عصر تُعدّ فيه البيانات أثمن موارد القرن الحادي والعشرين، ولكن المفارقة اليوم أن من يمتلك البيانات ليس هو من يُسيطر على القوة الرقمية!!
بعض الدول التي لديها كميات هائلة من البيانات بسبب عدد سكانها المرتفع لا تملك القدرة حتى على تخزين بياناتها فكيف ستستثمرها وتؤسس لاقتصاد البيانات المستقبلي، بينما دول أخرى تتحكم بمعظم البنية التحتية التي تستضيف وتُشغّل الذكاء الاصطناعي رغم أنها تجمع بيانات العالم وتستغلها لتحكم قبضتها وتتحكم في مستقبل الذكاء الاصطناعي وقوته، وهنا نطرح السؤال هل ستبقى دول الشمال العالمي متقدمة باستغلالها حتى بيانات دول الجنوب؟ سؤال مشروع، ولكن الإجابة عليه صعبة جدًا.
التفوق الصناعي الذي مكن الكثير من الدول من رسم خارطة القوى العالمية لعقود من الزمن، واليوم مع تطور الذكاء الاصطناعي نجد أن نفس القوى هي التي تهيمن وتستفيد من بيانات العالم والمساواة والعدالة العالمية غير موجودة حتى في الجانب التقني، وبعدما سلبت الدول الكبرى خيرات وثروات العديد من دول العالم ها هي اليوم تُعيد نفس السيناريو لكن بصورة أكثر حضارية، لكن الحالة متشابهة بيانات بلدان تُسلب وثروات تُصنع وسيطرة تحكم دون أن يكون لصاحب الحق أي تدخل أو أي حق في عوائد هذه البيانات وحتى حق في استخدامها.
الواقع يقول أن عدد مراكز البيانات يعكس تموضع القوة الرقمية؛ فالولايات المتحدة تمتلك أكثر من 5,300 مركز بيانات، تليها دول مثل ألمانيا والمملكة المتحدة، فيما دول الجنوب تُعاني من ضعف في هذا النوع من البُنى التحتية رغم أنها تنتج كمًّا هائلًا من البيانات، وهذا يعني أن البيانات القادمة من الجنوب غالبًا لا تستفيد دول الجنوب من القيمة التي تُولَّد عند معالجة البينات، أو من الفوائد الاقتصادية والسياسية المرتبطة بها، وهنا تزداد الفجوة وتتسرع وكأن دول الجنوب محتوم عليها البقاء في الفقر أو التنمية المتأخرة والضعف في البنية التحتية، ونقص النفوذ في مراكز اتخاذ القرار العالمية وأحد أهم الأسباب أن دول الشمال لا تعترف بحقوق دول الجنوب في معالجة بيناتهم والتي هي كما قلنا سابقًا ثروة عصرنا الحالي.
لو ذهبنا إلى الهند- عزيزي القارئ- رغم إنتاجها الضخم للبيانات إلا أنها تمتلك قدرة مراكز بيانات أقل من قدرة تحليلها والاستفادة منها، وصحيح أنها تحاول تطوير منظوماتها الرقمية بحيث تزيد وتضاعف قدراتها، إلّا أن مراكز تحليل البيانات العالمية أسرع من هذا التطور، والسرعة هنا عامل مهم يحدد من سيتفوق في السباق ومن سيصل لنماذج ذكاء اصطناعي متطورة قادرة على المنافسة وسد الثغرات في عالمي رقمي بأكمله في المستقبل، وقد أسقطنا المثال على الهند باعتبارها واحدة من أكبر دول العالم انتاجًا للبيانات، ولكن قائمة الدول المماثلة تطول مثل معظم دول القارة الأفريقية، والعديد من دول الشرق الأوسط وحتى بعض الدول الأسيوية.
إن الفجوة بين من يملك البيانات ومن يملك القوة الرقمية ليست مجرد مسألة تقنية، بل مسألة سيادة، فالبيانات التي تُولد في الجنوب لا تعني سيادة ما لم يتمكّن منتجوها ومواطنيها من تقرير كيف تُستخدم وكيف تُعالج تحت أي شروط، وبأي أجور ولصالح من، ولكن كل ذلك لا يحدث، فامتلاك القوة الرقمية من خلال شركات عابرة للقارات وبين دول عظمى دون التزام أخلاقي أو شفافية راجعة إلى المجتمع المصدر لهذه البيانات يمكن أن يُولّد مشكلات جديدة تعزز من نفوذ وسيطرة القوى العالمية على حساب شعوب تمثل الأغلبية في هذا العالم، وتهدد خصوصيتهم في استخدام بياناتهم دون العودة لهم بحقوقهم في تلك الخصوصية أو حتى عوائدها الاقتصادية المستقبلية.
المطلوب اليوم ليس فقط سدّ الفجوة التكنولوجية وإن كان ذلك من أهم الخطوات، بل إعادة تعريف مفهوم "العدالة الرقمية" نفسها، فهل هي ملك لمن لديه القدرة على صنع الذكاء فقط؟ أم مع من يمنح الحقوق ويضمن أنها تُمارس وتُوزّع بعدالة؟ وهل يمكن أن نرى يومًا أن "البيانات المشتركة" تصبح موردًا للتمكين وليس للتبعية؟ هذا السؤال الذي يجب على حكومات كثيرة أن تفكر في الإجابة عليه اليوم قبل الغد، والخطوة الأولى أن تقوم هذه الحكومات بحماية بيانات مواطنيها من الاستغلال الذي تُمارسه شركات التكنولوجيا التي تقوم بتدريب الذكاء الاصطناعي على بيناتنا وخصوصياتنا، وأن تقوم أيضًا بالعمل على ضمان أن يعاد إشراكها في منظومة التقنية المستقبلية لا عزلها وجعلها متخلفة عن التطور فتضيع حقوقها أكثر وأكثر في المستقبل.